أما بعد: أيها الناس، فقد برزت في السنين الأخيرة ظاهرة الانتحار؛ وهو أن يتعمد الإنسان قتل نفسه. وكنا نسمع عن هذه الظاهرة في المجتمعات الغربية الشاردة عن الله تعالى، والتي طغت عليها المادة في كل نواحي الحياة، وحينما تُسجَّل أرقامٌ في هذا الشأن تكون الدول الأكثر ترفًا وارتفاعًا في مستوى دخل الفرد هي الأعلى نصيبًا في الانتحار. غير أننا الآن نسمع كثيرًا عن ذلك في بلد التوحيد ومنطلق الدعوة ومبعث الرسالة، فماذا دهانا؟! عباد الله، ليس بين الله تعالى وأحدٍ من خلقه حسبٌ ولا نسب، وسنن الله سبحانه لا تجامِل أحدًا، والمحسوبيات ليس لها ميزان في الشرع، فمن اتقى الله وأطاعه سعِد ونجا، ومن عصاه شقِي وهلك. أيها المسلمون، ما أسباب الانتحار؟ وما حكمه؟ وما الوسائل المناسبة للحد منه أو منعه؟ إن على المسلم ـ عباد الله ـ أن يُدرك أنّ الله جل وعلا قدّر أن تكون هذه الحياة مجبولة على كبد ومنطويةً على تعب، والتعامل معها يكون بإدراك ذلك يقينًا، فلا يُفاجأ بعد الفرح بترح، وبعد السعادة بألم ونكد، لكن على المؤمن أن يوطِّن نفسه على تحمل كل ما يصيبه، ويتذكر قول الرسول [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] لأبي بكر رضي الله عنه: ((يا أبا بكر، ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! أليس يصيبك اللأواء؟! فذلك ما تُجزون به))، وقوله [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]: ((وإن الفَرَجَ مع الكرب، وإن مع العسر يسرًا))، وقول الله تعالى: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] [الشرح: 5، 6]، وفي هذا بشارة أنه كلما وجد عسر وصعوبة فإن اليسر يقارنه ويصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه، ولن يغلب عسرٌ يسرين. فالحمد لله. فمن أسباب الانتحار ـ عباد الله ـ أن علاقة البعض مع ربه أشبه ما تكون علاقة نفعية، فيظل يدعو ربه لضرٍ نزل به أو حاجة يرجوها، فإذا نال مطلوبه توقف وفترت صلته بالله، وكان المتعين عليه أن يواصل ويستمر في كثرة تضرعه لربه في السراء والضراء، فليس لأحد غنى عن الله تعالى، ومن تعرّف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة. ومن التضرع المداومة على الأذكار اليومية الثابتة عن الرسول [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] في كل مناسبة والحرصُ عليها، ومنها قراءة سور المعوذات وغيرها مما أثبته العلماء في الكتب والكتيبات الخاصة بالأذكار. السبب الثاني من أسباب الانتحار: كثرة الأمراض النفسية وفشوها، بدليل كثرة العيادات النفسية والأطباء النفسيين، بل وامتهان القراءة على المرضى حتى لو لم يكن القارئ مؤهلاً لذلك، الأمر الذي أضاف إلى قوائم المرضى النفسيين نوعيتين من الناس هما: المُقرَئ عليه، والقارئ نفسه الذي كثيرًا ما هو بحاجة إلى من يقرأ عليه، نسأل الله العافية. والسبب الثالث: اشتغال النفس بحال الآخرين ومراقبتهم والغفلةُ عن نفسه، وانشغالهُ بالآخرين يوقعه في محاذير ومخاطر كثيرة، منها تركه نفع نفسه والوقوع فيما لا يعنيه، والصواب والسنة والخير والراحة في تركه ما لا يعنيه، و((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) كما صح عن الصادق المصدوق [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]، وصح عنه أيضًا: ((احرص على ما ينفعك)). والسبب الرابع: أن بعض العمال الذين تغرَّبوا عن أهلهم وأوطانهم يظنّ أحدهم أنه سيجمع ثروةً عظيمة عما قريب، فإذا هو مرهقٌ بالديون، إما لقلة راتبه، أو ظلم كفيله له بتأخيره صرف راتبه، أو أن كفيله يسيبه حرًا ويفرض عليه مبلغًا شهريًا، فيعجز عنه، مما يسبب له إحباطًا، قد يلجأ بعضهم إلى الانتحار هروبًا من بحر الهموم الذي يسبح فيه. والسبب الخامس: أن بعض الشباب له طموحاتٌ تعانق السحاب؛ لكنه في الوقت نفسه لا يقدّم عملاً، أو أنه يكدّ ويكدح ويلهث ولكن دون المستوى الذي يؤمله، فيصاب هو الآخر بإحباط، فيوحي إليه الشيطان أن الحل الأفضل له التخلص وسرعة الخروج من هذه الدنيا. والسبب السادس: أن بعض الناس يتوسع في مصاريفه المعيشية، فيُثْقَل بالديون مقابل عدم وجود دخل يغطي ويقضي ديونه، فإذا اجتمع مع ذلك غلبة شيطان وزوجةُ السوء ضاقت عليه الدنيا بما رحبت. والسبب السابع: سوء العشرة الزوجية وتمكّن الخلافات وكثرة الخصومات بين الزوجين، بحيث تفرز جوًا لا يطاق من القلق، يرى أحدهما أن السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو الانتحار. والسبب الثامن وهو من الأهمية بمكان: ذلكم أن يقترف شخص ذكرًا أو أنثى ذنوبًا كبيرة كالزنا، ثم يحرقه ألم المعصية ولا يجرؤ أن يسلّم نفسه للقضاء الشرعي لإقامة الحد عليه، كما أنه يضعف عن إحداث توبة صادقة بينه وبين الله تعالى، فيعمد إلى إقامة الحد على نفسه بالانتحار. والسبب التاسع: وهو طغيان المادة على أذهان الكثيرين، يدفعهم أن تكون حساباته مادية بحتة، فإذا هو يسعى ليلاً ونهارًا في سبيل رفع مستواه المعيشي، ثم يجد نفسه في نهاية الأمر أنه لم ينل أربه، فييْأَس ويظن أن كل جهد يقدمه عبثٌ لا فائدة فيه. هذه ـ أيها المسلمون ـ بعض أسباب الانتحار، وهناك غيرها أيضًا. يظن المنتحر أنه ترك الشقاء والتعب، ويظن أنه سيجد الراحة بعد قتل نفسه، ولم يدرِ ماذا وراء القبر، والمرحلةَ التي هو مقبلٌ عليها، إنها الشقاء الطويل والعذابُ الأليم الذي يهون أمامه كَبَدُ الدنيا ونصبها. فما حكم الانتحار؟ من المعلوم أن نفس الإنسان ليست ملكًا له على وجه الحقيقة، وإنما هي بمثابة الوديعة أو العارية عنده، لأنها ملك خالقها وهو الله جل جلاله، وليس من حق الإنسان وهو بمثابة الوديع أو المستعير إتلاف ما استودعه الله إلا إذا أذِن له الله تعالى بذلك كما في الجهاد. وقد دلَّ على تحريم الانتحار قوله تعالى: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] [النساء: 29]، وما جاء في السنة من رواية الإمام مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رجلاً أبلى بلاءً حسنًا في قتال المشركين، فقال بعض المسلمين: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]: ((أما إنه من أهل النار))، فقال رجل من القوم: أنا أصاحبه، فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجُرح الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: ((وما ذاك؟)) قال الرجل: الذي ذكرت آنفًا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك، وذكر قصته معه، وأنه قتل نفسه نهاية الأمر. بارك الله لنا في القرآن العظيم...
|