الصائم المؤمن
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خص بالفضل والتشريف شهر رمضان، وأنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وخصه بالعفو والغفران، واختص من اصطفاه بفضلٍ منه وامتنان، وأيقظ بالوعظ من وفقه في هذا الموسم العظيم الشأن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والإحسان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد عدنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الفلاح والخسران.
أيها المسلمون:-
ما الصيام؟ وما حقيقته؟ وما أسراره وآثاره؟ هل الصيام ترك الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويفعل الإنسان بعد ذلك ما يشاء؟!
أم أن الصيام له معاني أعظم وأكبر من ذلك، لو أن الصيام كما ذكر لكان أهون شيء على الناس، ولما استحق هذا الأجر العظيم الكبير الذي أخبر الله -تعالى- عنه في قوله كما في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) متفق عليه.
قال بعض السلف: أهون الصيام: ترك الطعام والشراب. وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- حقيقة الصيام في قوله: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري. فالصيام الكامل هو الذي يصل بصاحبه إلى درجة التقوى كما قال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة.
ولا يصل الإنسان إلى درجة التقوى إلا بامتثال مكارم الأخلاق والبعد عن مساوئها، فيا تُرى ما سلوك الصائم المؤمن؟.
إنه ذلك الذي كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
وهو الذي كف النظر واللسان والرجل والسمع، وسائر الجوارح عن الآثام، وهو الذي صام قلبه عن الهمم الدنيئة، والأفكار المبعدة عن الله -تعالى-، وكَفَّه عما سوى الله بالكلية.
أيها المسلمون:-
إن الصيام لا بد أن يُترجم في دنيا الناس إلى واقع عملي، وإلا فقد روحه وأصبح جسداً بلا روح، أو صورة بلا حقيقة، أو مظهراً بلا مخبر.
أين أخلاق الصيام والقيام؟ أين الأمانة؟ أين الكرم والجود؟ أين الورع وترك الشبهات؟ أين العطف والرحمة والشفقة؟ أين الحياء والمراقبة؟ أين الصبر والتوكل؟ أين الشفاعة الحسنة والتعاون على البر والتقوى؟
ما فائدة الصيام إذا كان لا ينهى عن فحشاء أو منكر؟
وما فائدة الصيام إذا كان لا يزكي الأنفس ويطهرها من الشح والأثرة وسائر الدناءات؟
إن نظرة الناس لا بد أن تتغير في ضوء مفاهيم الإسلام، وما خُص به في شريعة الله من فضائل وآداب. لا بد أن يتعامل الناس مع الصيام بصفته عبادة من أعظم العبادات وركناً عظيماً من أركان الإسلام، لا أنه عادة توارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.
إن كثيراً من الناس يدخل عليهم رمضان ويخرج ولا تغيير في حياتهم، ولا تأثير في سلوكهم، ولا رقي في أخلاقهم، بل إن بعض الناس لا يزيدهم رمضان من الله إلا بعداً، وهؤلاء هم المنافقون -والعياذ بالله- الذين يكرهون رمضان، ويعدون العدة لمحاربته، لإزالة أثره الإيماني في نفوس المؤمنين.
وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بقوله: (ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شرٌ لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، وهو غُنمٌ للمؤمن، ونقمةٌ للفاجر).1
فليكن رمضان مدرسة لتربية الأمة بكل فئاتها على مكارم الأخلاق، والترقي في مقامات العبودية وصولاً إلى رضا الله -عز وجل- وقيادة البشرية والتمكين في الأرض، كما قال -سبحانه-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النــور.
أيها المسلمون:
إن أخلاق الصيام كثيرة لا تستطيع هذه العجالة استيفاءها، ولكن نشير إلى بعضها:
أولاً: الصبر: فمن أخلاق الصيام التي ينبغي للصائم المؤمن أن يتحلى بها خلق الصبر، ورمضان شهر الصبر؛ لأن الامتناع عن الشهوات المعتادة يحتاج إلى صبر، فيصبر الإنسان على الجوع والعطش، طاعة لله -عز وجل- ومحبة له، واتباعاً لنبيه -صلى الله عليه وسلم-.
ولا بد كذلك من الصبر على أذى الناس وسفاهة السفهاء، وتطاولهم بغير حق، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يفسق ولا يرفث، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم) متفق عليه، ومع هذا التوجيه النبوي الرشيد، فإننا نجد كثيراً من الناس يفقدون أعصابهم عند أتفه الأسباب، فيثورون ويسبون ويلعنون ويبطشون، فإذا ما هدأت ثورة غضب أحدهم وعوتب فيما حدث منه، احتج بالصيام!! وكأن الصيام هو الذي دعاه لهذا المنكر من القول والفعل.
ولو علم هذا حقيقة الصيام وأنه شهر يدعو إلى الصبر والعفو والرحمة والسماحة لما افترى عليه هذا الافتراء، ولما رماه بهذا الزور والبهتان.
ومن أخلاق الصيام: الأمانة؛ لأن الصيام أمانة من جملة الأمانات التي تحملها الإنسان وعجزت عن حملها السماوات والأرض قال -تعالى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب. ولذلك جاء الوعيد الشديد للمفرِّط في أمانة هذا الشهر الكريم بالفطر قبل غروب الشمس ولو بدقائق معدودة، فعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (بينما أنا نائم أتاني رجلان، فأخذا بضبعي -عضدي- فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد فقلت: لا أطيقه. فقالا: سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار. ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم).2
ومن أخلاق الصيام: الرحمة والمواساة وقضاء الحوائج، فرمضان شهر الرحمة والمواساة، يتذكر فيه الغني أخاه الفقير، ويشفق عليه، ويواسيه بالمال والطعام والشراب، وقد رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك فقال: (من فطَّر صائماً كان له مثل أجره، من غير أن ينقض من أجر الصائم شيء)3
فيجب على الصائم أن يشعر بشعور إخوانه المسلمين، فيرحم ضعيفهم، ويواسي فقيرهم، ويغيث ملهوفهم، ويسعى في جلب المصالح لهم ودفع المضار عنهم، في حدود استطاعته إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. قال -تعالى-: {.. وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (77) سورة الحـج.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه.
اللهم اجعلنا ممن صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً، واهدنا فيه لأحسن الأعمال والأخلاق والأهواء لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.. اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين الأبرار، أحمده ما تعاقب الجديدان الليل والنهار، وأصلي وأسلم على النبي المختار، وعلى آله وأصحابه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والقرار، أما بعد:
أيها المسلمون:
ومن أخلاق الصائم المؤمن: النصح لكل مسلم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الدين النصيحة) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.
وعن جرير -رضي الله عنه- قال: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم. متفق عليه. فمن حق المسلم على أخيه المسلم أن ينصح له ويدعوه إلى ما فيه صلاحه ونجاته، ويحذره من طرق الغواية وسُبل الضلال، وهذا من مقتضى الأخوة الإسلامية واللحمة الإيمانية.. وفي رمضان فرصة عظيمة للنصح والتعليم والإرشاد، إذ القلوب مقبلة على ربها، والنفوس متشوقة إلى سماع كلام الله وكلام رسوله، والشياطين مصفدة، والسكينة حاصلة، فعلى كل مسلم محب للخير أن يغتنم فرصة هذا الشهر في النصح والتوجيه والإرشاد، وبخاصة أئمة المساجد وطلاب العلم والدعاة إلى الله -عز وجل-، عليهم واجب عظيم في نصح الناس ووعظهم وتوجيههم في هذا الشهر العظيم المبارك.
ومن أخلاق الصيام:
التعاون على البر والتقوى. وقد أمر الله -تعالى- بذلك فقال: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) سورة المائدة. وقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} سورة العصر.
وفي رمضان تقام كثير من مشاريع الخير مثل:
1. مشروع إفطار الصائم.
2. حلقات تحفيظ القرآن الكريم.
3. توزيع الأشرطة والكتيبات والمطويات.
4. كفالة الأيتام والأسر الفقيرة.
5. مساعدة المحتاجين واللاجئين والمنكوبين في جميع بلاد الإسلام.
فعلى المسلم أن يشارك إخوانه في بعض هذه الأنشطة الخيرية إما بماله، وإما بوقته وجهده، حتى لا يحرم نفسه من الأجر والمثوبة، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزى، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا) متفق عليه.
ومن أخلاق الصيام: الإصلاح بين الناس: وهو باب عظيم من أبواب الخير غفل عنه كثير من الناس، قال -تعالى-: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (114) سورة النساء. وقال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات.
وفي الحديث المتفق عليه قال -عليه الصلاة والسلام-: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة) وتعدل بينهما: أي تصلح بينهما بالعدل.
فأين الذين يستغلون هذا الشهر في الصلح بين الناس والتوفيق بين المتخاصمين وسلّ سخائم النفوس، وتحبيب المسلم في أخيه المسلم.
أيها المسلمون: إن أخلاق الصيام كثيرة، وهي تشمل كل خلق نبيل وخصلة حميدة وعمل صالح، فالموفق من استكثر من هذه الخصال، وضرب في كل باب من أبواب الخير بسهم، والمخذول من غفل وضيع الشهر في النوم والبطالة.4
اللهم اجعلنا من المتقين، اللهم حسِّن أخلاقنا يا رب العالمين، اللهم وفقنا لصيام هذا الشهر وقيامه، واكتب لنا فيه ما كتبته لعبادك الصالحين..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1- أخرجه أحمد والبيهقي وصححه أحمد شاكر.
2- ذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
3- رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
4- نقلاً عن رسالة صغيرة بعنوان أين نحن من أخلاق الصائمين بتصرف.]