ما هي قيمة الحياة الاجتماعية؟ وفي المقابل ما هو حكم الانعزال عن المجتمع والرهبانية في منظار الأخلاق الاسلامية؟
للاجابة عن السؤال ينبغي دراسة وتحليل الحياة الاجتماعية والانعزال عن المجتمع أي الرهبانية. ما هي العوامل التي تستدعي ركون الانسان الى المجتمع؟ وما هي عوامل انعزاله وانزوائه ؟
ليس للحياة الاجتماعية وترسيخ الأواصر الاجتماعية أو الاعتزال والانزواء قيمة ذاتية، بل تكتسب قيمتها من عوامل واُسس اُخرى. ولذا لابدّ لتعيين وتحديد قيمة كل منها من دراسة العلل والعوامل لكل منهما.
يمكن تقسيم العوامل التي تبعث ميل الانسان نحو الحياة الاجتماعية الى عدة مجموعات:
ـ المجموعة الاُولى: العوامل الغريزية كالغريزة الجنسية. فكل فرد لميله التكويني الى الامل المقابل يقترب منه ـ شاء أم أبى ـ ويعاشره ويحتك به ويربط حياته بحياته.
انّ الحياة الاُسرية والحياة الاجتماعية اصطلاحان مختلفان ـ بمعنىً من المعاني ـ ولكن وفق مفهوم أوسع تكون الحياة الاُسرية نحواً من الحياة الاجتماعية بل ان الاُسرة تمثل النواة الاُولى والأساس للحياة الاجتماعية كما تذهب اليه بعض نظريات علماء الاجتماع ويؤيدها القرآن الكريم الى حدٍّ ما.
وليس لأي مستوى من مستويات الحياة الاجتماعية والأحداث ومراحل التأريخ عامل واحد، بل هناك عوامل مختلفة تؤثر في ايجادها دائما، ولكن ليس من الخطأ أن يقال: يقيم فردان حياتهما المشتركة على أساس الغريزة الاملية وتكون هذه الغريزة عاملاً لحياتهما الجماعية.
ـ المجموعة الثانية هي العوامل العاطفية التي تستدعي الميول الاجتماعية وربط حياة فرد مع سائر الأفراد. وقد قلنا في بحث العاطفة ان الانسان يميل طبيعيا الى الاقتراب من بني الانسان الآخرين والاستئناس معهم، سيّما العاطفة الاُسرية حيث تكون سببا لبقاء واستمرار الحياة الاُسرية.
ـ المجموعة الثالثة: العوامل العقلية التي هي أوسع من العوامل الاُخرى والعنصر الاختياريُّ فيها أقوى.
فالانسان يدرك بعقله أنّه عاجز عن توفير متطلبات حياته بنفسه، فهو بحاجة الى التعاون مع الآخرين في توفير حوائجه المادية كالملبس والمسكن والمأكل، وهكذا حوائجه المعنوية. انّ التكامل المعنوي للانسان وتلبية حوائجه المادية يتوقفان على الحياة الاجتماعية، ولولا المجتمع فلا تعليم ولا تربية ـ اضافة الى اختلال حياة الفرد المادية ـ كما لا يتحقق الرقيّ المعنوي والأخلاقي، ولذا يحكم العقل بضرورة معاشرة الآخرين وربط الحياة بحياة الآخرين والتعاون معهم في حل مشكلات الحياة.
ما ذكر يمثل أهم العوامل التي تدفع الانسان لانتخاب الحياة الاجتماعية، الاّ انّ تأثير هذه العوامل غير متكافئ في جميع الأفراد، اذ هناك أفراد يريدون الحياة الاجتماعية لتلبية حوائجهم المادية فقط ولا يعبأون بالمتطلبات المعنوية، وفي حين يولي بعض آخر اهتماماً أساسياً للمعنويات، هؤلاء يحبون المجتمع ويميلون الى الحياة الاجتماعية لتلبية متطلباتهم المعنوية، وجلّ تفكيرهم هو أن ينتفعوا بعلوم الآخرين وسلوكهم وتجاربهم في المجتمع، وأن يستخدموها في سبيل تكاملهم المعنوي حتى انّهم يستعدون للابتعاد عن الحياة الاجتماعية أو تقييدها في حالة فقدان هذا العامل، أو تعرُّض هذه المصلحة للخطر، ويتأثر بعض آخر بالعوامل العاطفية بشدة، ويضعف تأثير هذه العوامل في بعض آخر، وهكذا يتفاوت تأثير العامل الغريزي في الأشخاص.
وعليه فانّ تقييم الحياة الاجتماعية يتبع تأثير العوامل والدوافع التي تدعو الانسان للحياة الاجتماعية أو الابتعاد عنها. إذنْ لابدّ من دراسة تأثير هذه العوامل أولاً، ومن الطبيعي أن يكون إبداء الرأي بالنسبة لهذه الشؤون مع وجود عوامل متعددة ذات ادوار مختلفة معقدا وصعبا.
في حالة وجود عامل واحد لسلوك الانسان فانه يمكن قياسه وتقييمه الى حدٍّ ما، اما سلوك الانسان واعماله المعقدة والتي تتعاضد عوامل مختلفة في ايجادها ويؤثر بعضها على البعض الآخر وتتساند أو تتعارض في القيمة فلا يمكن ببساطة دراسةُ قيمها وبالتالي ابداء الرأي عن تقييم هذا النحو من الحياة الاجتماعية بصورة عامة; هل تكون محبذة أم لا؟ فالكثير من الحسابات ينبغي اجراؤها بدقة كي تقدَّم اجابة صحيحة عن السؤال المذكور.
انّ التقييم في هذه الموارد نسبي ولا يمكن ـ في الرؤية الاسلامية ـ اعتبار قيمة مطلقة للحياة الاجتماعية أو الانزواء الاجتماعي. وقولنا انّ التقييم في هذه الموارد نسبي لا يعني خضوعه لآراء الأشخاص وأذواقهم، بل يعني انّ قيمتها تابعة للظروف الزمانية والاحوال الاجتماعية المختلفة والدوافع والعوامل الاُخرى.
وبعبارة اُخرى: نظراً لتأثير عوامل مختلفة في تقييم الحياة الاجتماعية لا يمكن تقديم ضابطة ثابتة له، وليس ذلك لأن مجرد تغيير الزمان أو الموقع الجغرافي أو اختلاف الاذواق يؤدي الى اختلاف القيم، بل ان الاختلاف في العوامل والظروف ودوافع الحياة الاجتماعية يستتبع اختلاف القيم، فلو اجتمعت مجموعة من العوامل والظروف فستكون لها قيمة ايجابية في أي زمان ومكان وبالنسبة لاي فرد، وتكون لمجموعة اُخرى قيمة سلبية.
انّ أهم عامل للتقييم في الشؤون الأخلاقية هي نية الانسان ودافعه حتى انّ العمل المحدد الواحد قد يؤدى بدافعين متضادين: دافع حسن جداً ودافع سيء جداً، فلا يمكن تقييم عمل ما دون الأخذ بنظر الاعتبار الدافعَ في ادائه. وهذه حقيقة مغفول عنها في الكثير من الفلسفات الأخلاقية.
وعلى أساس رؤيتنا وبتأييد الآيات والروايات لا ينبغي ـ على الأقل ـ التغاضي عن النية والدافع ـ وهما من العوامل الأساسية لإنجاز العمل ـ في تقييم السلوك الاجتماعي. طبعاً المؤثر في قيمة العمل لا ينحصر في النية، فقد يكون للانسان هدف ونية صالحة ولكن يجهل الطريق لتحقيق ذلك فقد ينجز العمل مستتبعا الضرر المادي والمعنوي لنفسه أو للآخرين. وعليه فانّ مجرد النية الحسنة لوحدها ليست ملاكاً للتقييم ولكن ليس من الصحيح التغاضي عنها أيضاً في تقييم العمل فانّه يبعد الانسان من الحقيقة.
فالانسان تارة يلاحظ مصلحة الحياة الاجتماعية فيعطيها قيمة مطلقة مع أن هناك عوامل اُخرى تقيّد تلك القيمة. ففي النظام الحاكم السابق كانت قضية الاختلاط بين النساء والرجال من القضايا المألوفة جداً في مجتمعنا وكانت تطرح آراء مختلفة بشأنها، لكن كان التعامل الحسن مع الشرائح والفئات كافة قيمةً قد سرت من الثقافة الغربية الى ثقافتنا، واتخذت موقعها لدى متنوّري الفكر والمتغرّبين. وذلك بأن يكون كل انسان حسن التعامل وحميما مع أي انسان آخر، ولا فرق من هذه الناحية بين الرجل والمرأة. فعلى المرأة أيضاً أن تتعامل بحرارة مع أيّ رجل، فكما تمزح مع النساء الاُخريات فانها تمزح مع الرجال. على أي حال كانوا يرون ذلك من القيم حيث يكون بنو الانسان ـ رجالاً ونساءً ـ متحابّين ومستأنسين فيما بينهم.
هذه الفكرة تنشأ من جذور فلسفية وفكرية عميقة، وحينما تدخل تلك المبادئ أدمغة أفراد الانسان فانّها تثمر هذه النتائج، فمثلاً ستكون معاشرة المرأة الاجنبية مع الرجل الاجنبي عنها من جملة القيم، فاذا دخل الضيف الاجنبي البيت ولم تستقبله ربة البيت ولم تصافحه وتكرمه كان سلوكها غير قيمي وتُتّهم بانّها تجهل الآداب الاجتماعية وانّها ليست اجتماعية بل انعزالية.
أجل، لو اعتبرت هذه الفكرة مبدءً عاماً يأبى الاستثناء بمعنى ان جميع أفراد الانسان يمثلون خلايا جسد واحد فلابدّ من التنسيق والتلاحم بينها دون فرق، مثل هذه الفكرة تستتبع هذه النتيجة وتوجد هذه القيم، وعليه يكون ابتعاد المرأة الاجنبية عن الرجل الاجنبي أمراً غير قيمي، فيما يكون الاحتفاء والمعاشرة والمزاح بينهما أمراً قيمياً.
وعليه فانّ هذه القيم لا تظهر تلقائيا بل لها أرضية فكرية، وعندما تروّج هذه الأفكار في الكتب ووسائل الاعلام ومؤسسات التربية والتعليم فانّها تستتبع هذه النتيجة وتحدث هذه القيم، ويعتبر المعارض لها رجعياً ومتزمّتاً ولم ينمُ حسّه الاجتماعي، ويبقى بعيدا عن الثقافة الجديدة والأمور الحديثة والجميلة. في هذه الرؤية يكون كل ما هو أحدث فهو الاجمل والاكثر جذابية، وهذ هو المبدأ الثقافي المعروف بـ(الحداثة).
لسنا اليوم بحاجة الى البحث عن هذه الشؤون حيث تسود الاجواء الثورية والاهتمام بالدين، ولكن من اللازم الدراسة الاكاديمية لهذه القضايا بدقة كي يتعرف الغافلون على منطق الاسلام وعدم أصالة هذه الميول والأفكار وأشباهها.
لقد ترسَّخ في مخيلة اغلب شعوب العالم في الشرق والغرب انّ كل جديد فهو ذو قيمة ايجابية، وانّ كل قديم فهو ذو قيمة سلبية (حب الجديد ونبذ القديم). وقد صاحب ذلك ـ اضافة الى كونه منسجما مع طبيعة عامة الناس وأهوائهم ـ تبريراتٌ فلسفية خاصة، سيّما مذهب الديالكتيك ـ الذي يعتبر كل حركة تكاملية وكل جديد أكمل من القديم وأفضل ويعتبر الحرص على الحداثة ونبذ القديم أمراً ضرورياً.
وفي المقابل نحن الذين نرى بوضوح خواء هذه القضايا، فاننا لا نعتبرها جديرة بالبحث والدراسة العلمية فنمرّ عليها مرّ الكرام، أمّا اذا اردنا النقد العلمي لهذه الرؤى والقيم فانه يلزمنا البحث عن جذورها بنحو مستقل ونقدها لكي تتوفّر لدينا ثقافة ثابتة ومتقنة لا تدحر.
على أي حال فانّ قول شخص بانّ الحياة الاجتماعية مذمومة أو ممدوحة في الآية أو الرواية الفلانية لا يكفي للرد على هذا السؤال المعقد، لاحتمال وجود قضايا معارضة لها في آيات وروايات اُخرى، فمثلاً تقول رواية ترتبط بآخر الزمان: (كونوا أحلاس بيوتكم) اي الزموا بيوتكم ولا تغادروها